استوصوا بالنساء خيرًا: شرح وتفسير

شرح حديث: “استوصوا بالنساء خيرًا” — دراسة تحليلية وتأصيل شرعي واجتماعي

يُعد حديث رسول الله ﷺ: “استوصوا بالنساء خيرًا” من أبرز الأحاديث النبوية التي حملت في طياتها توجيهًا نبويًا شاملاً يمسّ جوانب متعددة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وعلى رأسها العلاقة بين الرجل والمرأة، في إطار الزواج والأسرة والمجتمع. هذا الحديث يوجّه المسلمين إلى حسن معاملة النساء والإحسان إليهن، ويؤكد على قاعدة أخلاقية وقيمية عظيمة، تُبرز مدى عناية الإسلام بالمرأة وحرصه على كرامتها.

يستدعي هذا التوجيه النبوي الشريف وقفة تأمل طويلة، خاصةً في ظل ما تعانيه المجتمعات الحديثة من أزمات أسرية واجتماعية بسبب سوء الفهم أو التطبيق لتعاليم الدين في معاملة المرأة. فسنجد من خلال هذا المقال استعراضًا تاريخيًا، شرعيًا، لغويًا، واجتماعيًا دقيقًا لهذا الحديث، مبينين دلالاته وأبعاده ومقاصده العميقة.

النص الكامل للحديث:

ورد الحديث بصيغ متعددة في كتب السنة، ومن أشهرها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: “استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا”.

(رواه البخاري ومسلم)

التحليل اللغوي لعبارة: “استوصوا بالنساء خيرًا”

لفهم هذا التوجيه النبوي بشكل دقيق، من الضروري الوقوف على بعض الألفاظ الواردة فيه:

• استوصوا: صيغة من الفعل أوصى، وهي تأتي بصيغة الأمر الموجه للجماعة، ومعناها التزام النصيحة والحرص عليها. وقد جاءت بصيغة المبالغة للدلالة على الثبات والاستمرار في الوصية.

• بالنساء: الباء تفيد الإلصاق، أي ألزموا أنفسكم بهذه الوصية العظيمة في حق النساء.

• خيرًا: أي أحسنوا إليهن، وعامّة الخير يشمل حسن المعاملة، الكلمة الطيبة، النفقة، الصبر، الرحمة، والرعاية.

هذه الصيغة تفتح المجال لفهم واسع وعميق للحديث، حيث لم يحدد النبي ﷺ نوعًا معينًا من الخير، مما يعني وجوب الإحسان في جميع الجوانب المتعلقة بالتعامل مع النساء.

خلفية الحديث والسياق النبوي

جاءت وصية النبي ﷺ في وقت كان فيه المجتمع الجاهلي يهمّش دور المرأة ويعتبرها دونية في الحقوق والمكانة. فجاء الإسلام بمنظومة تشريعية وأخلاقية عظيمة أعادت للمرأة اعتبارها وكرامتها، سواء كانت أماً، زوجة، بنتاً، أو أختاً.

لقد كانت هذه الوصية جزءاً من خطبته ﷺ في حجة الوداع، مما يدل على أهميتها القصوى، حيث اختار النبي ﷺ أن يُوصي بها في جمع عظيم من المسلمين، وعلى مشارف نهاية رسالته، ليجعلها إرثاً نبوياً دائماً في وجدان الأمة.

“فإن المرأة خلقت من ضلع” — دلالة التشبيه

شُبّهت المرأة في هذا الحديث بالضلع، وهو عظم مائل في القفص الصدري. وجاء في الحديث بيان أن “أعوج ما في الضلع أعلاه”، وهذا لا يعني نقصًا أو عيبًا، بل هو تشبيه بديع يهدف إلى بيان الطبيعة النفسية للمرأة، وضرورة مراعاة هذه الطبيعة الخاصة.

• الضلع أعوج بطبيعته: وليس هذا نقصًا فيه، بل لو كان مستقيماً لما أدى وظيفته في حماية القلب والرئتين.

• كذلك المرأة: خُلقت بعاطفة أوسع، ورحمة أعمق، وميل فطري إلى الحنان والرعاية، وقد تميل في قراراتها العاطفية أو ردود أفعالها، لكن هذا لا يعني نقصان عقل أو دين كما يفسّره البعض تفسيراً خاطئاً، بل هو اختلاف فطري له حكمته.

• “فإن ذهبت تقيمه كسرته”: أي أن من أراد أن يُغيّر طبيعة المرأة بالقوة أو العنف أو الإكراه، فسيفسدها ويكسرها، أي يُؤذيها نفسيًا وربما بدنيًا، ويُفقد العلاقة الزوجية توازنها.

• “وإن تركته لم يزل أعوج”: أي أن من قبل طبيعتها وعاملها بما تقتضيه تلك الطبيعة، نجا من المشكلات وحقق التوازن والاستقرار.

المقاصد الشرعية من الحديث

يحمل الحديث مقاصد عظيمة تتعلق بحماية الأسرة وصيانة المجتمع، ومن أبرز هذه المقاصد:

1. تكريم المرأة

الحديث يؤكد على مكانة المرأة في الإسلام، ويحث على الإحسان إليها، بما يشمل جميع أشكال الرعاية: العاطفية، النفسية، والمالية.

2. الحفاظ على استقرار الأسرة

من خلال مراعاة الفوارق النفسية بين الرجل والمرأة، والابتعاد عن أساليب التعسف، تتحقق الألفة والسكينة في البيت، وهو من مقاصد الزواج في الإسلام.

3. ترسيخ مبدأ الرحمة في العلاقات

الحديث يرشد إلى الرحمة، والتقدير، وعدم التسرع في الحكم أو العقاب، بل التفاهم واللين وضبط النفس.

4. التأكيد على أن الاختلاف في الطبائع فطري وليس مذمومًا

فالمرأة ليست “أعوج” من حيث القيمة أو المنطق، وإنما من حيث التكوين النفسي الذي يتطلب الصبر والحكمة في التعامل.

أبعاد اجتماعية وسلوكية للحديث

إن دلالات هذا الحديث تتجاوز حدود الأسرة، فهي تصل إلى المجتمع الأوسع:

• في العمل، يدعو الحديث إلى تقدير المرأة العاملة وحفظ كرامتها.

• في المؤسسات التعليمية، يحث على إعطاء الفتاة حقوقها التعليمية الكاملة دون تمييز.

• في القوانين، يوجه إلى بناء منظومة تشريعية تحمي المرأة من الظلم والعنف.

• في الإعلام، يُلزم بابتعاد الخطاب عن الصور النمطية أو التحقير من دور المرأة.

مقارنة تطبيقية بين المجتمعات الإسلامية والغربية في احترام المرأة

دور الرجل في تطبيق الوصية النبوية

تتطلب هذه الوصية تفعيل مجموعة من الصفات في الرجل المسلم:

• الوعي النفسي: أن يفهم اختلافات المرأة لا كعيب، بل كتكوين يجب التكيف معه.

• الصبر: أن يتحلى بالصبر على السلوكيات التي قد تكون انعكاسًا لعاطفة زائدة أو ضغط نفسي.

• الرفق: أن يحرص على المعاملة اللينة حتى في لحظات الغضب.

• العدل: أن يُنصف المرأة في الحقوق والواجبات، دون ميل أو تحامل.

التطبيقات الأسرية المعاصرة للحديث

في ظل تفكك الكثير من الأسر في عصرنا، بسبب أنماط الحياة السريعة وانتشار النزعة الفردية، يأتي هذا الحديث كمنارة توجه الزوجين نحو:

• احترام متبادل.

• إدارة الخلافات بذكاء دون عنف.

• توزيع الأدوار داخل الأسرة دون قهر أو تحكم.

• دعم المرأة نفسيًا وعمليًا لتكون شريكة حقيقية في بناء البيت والمجتمع.

أقوال العلماء في شرح الحديث

أجمع علماء الإسلام على أهمية هذا الحديث وعمق دلالاته، ومنهم:

• ابن حجر العسقلاني: قال في “فتح الباري” إن الحديث يحضّ على الصبر على النساء، وترك محاولة تغيير طبائعهن بالقوة.

• النووي: شرح في “شرح مسلم” أن الضلع إذا كُسر لا يُجبر، وفي ذلك إشارة إلى أن العنف يؤدي إلى نتائج كارثية في العلاقة الزوجية.

في ضوء علم النفس الحديث

أكدت دراسات علم النفس السلوكي والاجتماعي أن النساء يتميزن بمستويات أعلى من التعاطف والتفاعل الوجداني، مما يجعل استجاباتهن للمواقف أكثر عاطفية. وهو ما يتفق مع المعنى النبوي في الحديث، من أن التعامل مع المرأة يجب أن يأخذ في الحسبان طبيعتها المختلفة، وليس أن يُفرض عليها معيار ذكوري صارم يُعاقبها عند أول اختلاف.

الخلاصة

حديث “استوصوا بالنساء خيرًا” هو من أعظم ما ورد في السُّنة النبوية من حيث القيمة الأخلاقية والاجتماعية. إنه يؤسس لمنهج متكامل في التعامل مع المرأة، يقوم على الفهم والرحمة والرفق والعدل، ويدعو إلى مجتمع تُصان فيه كرامة النساء ويُحفظ فيه توازن الأسرة.

من خلال هذا الحديث، نجد أن الإسلام لم يُقارب موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة بمنظور قانوني فقط، بل بمنظور إنساني شامل يجعل من الرحمة والرفق والوعي أساسًا لهذه العلاقة.

المراجع:

1. صحيح البخاري – كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء.

2. شرح النووي على مسلم – المجلد العاشر.